سورة الأنعام - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} على البناء للمفعول أي العذاب، وقرئ على البناء للفاعل والضمير لله سبحانه، وقد قرئ بالإظهار، والمفعول محذوف وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} ظرف للصرف، أي في ذلك اليوم العظيم، وقد جوز أن يكون هو المفعول على قراءة البناء للفاعل بحذف المضاف أي عذاب يومئذ {فَقَدْ رَحِمَهُ} أي نجاه وأنعم عليه وقيل: فقد أدخله الجنة كما في قوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} والجملة مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لتهويل العذاب، وضميرُ عنه ورَحمه {لمن}، وهو عبارة عن غير العاصي {وَذَلِكَ} إشارة إلى الصرف أو الرحمة، لأنها مؤوّلة بأن مع الفعل وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجته، وبعد مكانه في الفضل، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: {الفوز المبين} أي الظاهرُ كونُه فوزاً وهو الظَفَر بالبُغية، والألف واللام لقصره على ذلك.
{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} أي ببليةٍ كمرَض وفقر ونحو ذلك {فَلاَ كاشف لَهُ} أي فلا قادرَ على كشفه عنك {إِلاَّ هُوَ} وحده {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} من صِحةٍ ونعمةٍ ونحو ذلك {فَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدُيرٌ} ومن جملته ذلك، فيقدِرُ عليه فيمسَسْك به ويحفَظْه عليك من غير أن يقدِرَ علي دفعه، أو على رفعه أحدٌ، كقوله تعالى: {فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} وحملُه على تأكيد الجوابين يأباه الفاء.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلةٌ أهداها له كسرى، فركِبها بحبْل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلاً، ثم التفت إلي فقال: يا غلام فقلت: لبيك يا رسول الله. فقال: أحفَظِ الله يحفَظْك، احفظ الله تجدْه أمامك، تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدة، وإذا سألت فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعنْ بالله، فقد مضى القلمُ بما هو كائن، فلو جَهَدَ الخلائقُ أن ينفعوك بما لم يقضِه الله لك لم يقدِروا عليه، ولو جَهَدوا أن يضروك بما لم يكتُبِ الله عليك ما قدَروا عليه، فإن استطعتَ أن تعملَ بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطِعْ فاصبر، فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن مع الكرْب فرَجاً، وأن مع العسر يسراً»
{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} تصويرٌ لقهره وعلوِّه بالغَلَبة والقُدرة {وَهُوَ الحكيم} في كل ما يفعله ويأمر به {الخبير} بأحوال عبادِه وخفايا أمورِهم، واللام في المواضع الثلاثة للقصر.
{قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة} روي «أن قريشاً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد لقد سألنا عنك اليهودَ والنصارى فزعموا أنْ ليس عندهم ذكرٌ ولا صفةٌ فأرِنا من يشهد لك أنك رسولُ الله فنزلت». {فأيّ} مبتدأ و{أكبرُ} خبره و{شهادة} نُصب على التمييز وقوله تعالى: {قُلِ الله} أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بأن يتولَّى الجواب بنفسه، إما للإيذان بتعيُّنه وعدمِ قدرتهم على أن يجيبوا بغيره، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه لا لتردُّدهم في أنه أكبرُ من كل شيء، بل في كونه شهيداً في هذا الشأن، وقوله تعالى: {شَهِيدٌ} خبرُ مبتدأ محذوف، أي هو شهيد {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} ويجوز أن يكون {الله شهيد بيني وبينكم} هو الجواب، لأنه إذا كان هو الشهيدَ بينه وبينهم كان أكبرُ شيءٍ شهادةً شهيداً له عليه الصلاة والسلام، وتكريرُ {البين} لتحقيق المقابلة {وَأُوحِىَ إِلَىَّ} أي من جهته تعالى {هذا القرءان} الشاهدُ بصِحة رسالتي {لاِنذِرَكُمْ بِهِ} بما فيه من الوعيد، والاقتصارُ على ذكر الأنذار لما أن الكلام مع الكفرة {وَمَن بَلَغَ} عطفٌ على ضمير المخاطَبين أي لأنذركم به يا أهلَ مكةَ وسائرَ مَنْ بلغه من الأسودِ والأحمرِ أو من الثقلَيْن، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة، وهو دليل على أن أحكام القرآن تعمُّ الموجودين يوم نزولِه ومن سيوجد بَعْدُ إلى يوم القيامة، خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل عند الحنابلة، وبالإجماع عندنا في غير الموجودين وفي غير المكلفين يومئذ كما مر في أول سورة النساء {قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله} تقرير لهم مع إنكار واستبعاد {قُل لاَّ أَشْهَدُ} بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صِرْف {قُلْ} تكرير للأمر للتأكيد {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو {وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} من الأصنام أو من إشراككم.


{الذين ءاتيناهم الكتاب} جواب عما سبق من قولهم لقد سألنا عنك اليهود والنصارى أُخِّر عن تعيين الشهيد مسارعةً إلى إلزامهم بالجواب عن تحكّمهم بقولهم: فأرنا من يشهد لك الخ، والمرادُ بالموصول اليهودُ والنصارى، وبالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل، وإيرادُهم بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بمدار ما أسند إليهم بقوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من جهة الكتابَيْن بحِلْيته ونُعوتِه المذكورة فيهما {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} بحِلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلاً. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال عمرُ رضي الله عنه لعبد اللَّه بن سلام: أنزل الله تعالى على نبيه هذه الآيةَ وكيف هذه المعرفة؟ فقال: يا عمر، لقد عرفتُه فيكم حين رأيته كما أعرِف ابني، ولأنا أشدُّ معرفةً بمحمدٍ مني بابني، لأني لا أدري ما صنع النساء، وأشهد أنه حقٌّ من الله تعالى.
{الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} من أهل الكتابين والمشركين بأن ضيّعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها وأعرضوا عن البينات الموجبةِ للإيمان بالكلية {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} لما أنهم مطبوعٌ على قلوبهم، ومحل الموصول الرفعُ على الابتداء وخبرُه الجملة المصدرةُ بالفاء لِشَبَه الموصول بالشرط، وقيل: على أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي هم الذين خسروا الخ، وقيل: على أنه نعتٌ للموصول الأول، وقيل: النصبُ على الذم، فقوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} على الوجوه الأخيرة عطفٌ على جملة {الذين ءاتيناهم الكتاب} الخ.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} بوصفهم النبيَّ الموعودَ في الكتابين بخلاف أوصافِه عليه الصلاة والسلام فإنه افتراءٌ على الله سبحانه وبقولهم: الملائكةُ بناتُ الله، وقولِهم: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله}، ونحو ذلك، وهو إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكونَ أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له، وإن كان سبكُ التركيب غيرَ متعرِّض لإنكار المساواة ونفيُها يشهد به العُرف الفاشي، والاستعمالُ المطَّرد، فإنه إذا قيل: من أكرمُ من فلانٍ أو لا أفضلَ من فلان فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم، وأفضلُ من كل فاضل، ألا يُرى إلى قوله عز وجل: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الاخسرون} بعد قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الخ، والسرُّ في ذلك أن النسبةَ بين الشيئين إنما تُتصوَّر غالباً لا سيما في باب المغالبة بالتفاوُت زيادةً ونُقصاناً، فإذا لم يكن أحدُهما أزيدَ يتحقق النُقصانُ لا محالة {أو كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} كأن كذّبوا بالقرآن الذي من جملته الآيةُ الناطقةُ بأنهم يعرِفونه عليه الصلاة والسلام كما يعرِفون أبناءهم، وبالمُعجزات وسمَّوْها سحراً، وحرفوا التوراة وغيّروا نُعوته عليه الصلاة والسلام، فإن ذلك تكذيبٌ بآياته تعالى، وكلمةُ {أو} للإيذان بأن كلًّ من الافتراء والتكذيب وحدَه بالغٌ غايةَ الإفراط في الظلم، فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفَوْا ما أثبته، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
{إِنَّهُ} الضمير للشأن، ومدارُ وضعه موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن ذكره، وفائدةُ تصديرِ الجملة به الإيذانُ بفَخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن فإن الضمير لا يُفهم منه من أول الأمر إلا شأنٌ مُبهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهن مترقباً لما يعقبُه فيتمكّن عند وروده له فضلُ تمكُّنٍ فكأنه قيل: إن الشأن الخطيرَ هذا هو {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي لا ينجُون من مكروهٍ ولا يفوزون بمطلوب، وإذا كان حالُ الظالمين هذا فما ظنُّك بمن في الغاية القاصيةِ من الظلم.


{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} منصوبٌ على الظرفية بمُضمر مؤخَّرٍ قد حُذف إيذاناً بضيق العبارة عن شرحه وبيانه، وإيماءً إلى عدم استطاعة السامعين لسماعِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيه من الطامة والداهية التامة، كأنه قيل: ويوم نحشرهم جميعاً {ثُمَّ نَقُولُ} لهم ما نقول كانَ من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به دائرةُ المقال، وتقديرُ صيغةِ الماضي للدَلالة على التحقّق ولحُسنِ موقَعِ عطفِ قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ} إلخ عليه، وقيل: منصوب على المفعولية بمضمر مقدّم، أي واذكر لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم الخ، وقيل: وليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم الخ، والضمير للكل، وجميعاً حال منه وقرئ {يَحشرُهم جميعاً ثم يقول} بالياء فيهما {لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي نقول لهم خاصة للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} أي آلهتُكم التي جعلتموها شركاءَ لله سبحانه، وإضافتُها إليهم لما أن شِرْكتَها ليست إلا بتسميتهم وتقوُّلهم الكاذب كما ينبىء عنه قوله تعالى: {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي تزعُمونها شركاءَ، فحُذِف المفعولان معاً، وهذا السؤالُ المُنبِىءُ عن غَيْبة الشركاءِ مع عموم الحشر لها لقوله تعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله} وغيرِ ذلك من النصوص إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبرُّؤ من الجانبين، وتقطَّع ما بينهم من الأسباب والعلائقِ حسبما يحكيه من قوله تعالى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} الخ، ونحوُ ذلك من الآيات الكريمة، إما بعدم حضورِها حينئذٍ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف، وإما بتنزيل عدمِ حضورها بعُنوان الشِرْكة والشفاعة منزلةَ عدم حضورها في الحقيقة، إذ ليس السؤالُ عنها من حيث ذواتُها، بل إنما هو من حيث إنها شركاءُ كما يُعرب عنه الوصفُ بالموصول، ولا ريب في أن عدم الوصفِ يوجب عدمَ الموصوف من حيث هو موصوف، فهي من حيث هي شركاءُ غائبةٌ لا محالة وإن كانت حاضرةً من حيث ذواتُها أصناماً كانت أو غيرها، وأما ما يقال من أنه يُحال بينها وبينهم في وقت التوبيخ ليفقِدوهم في الساعة التي علّقوا بها الرجاءَ فيها فيرَوْا مكان خِزْيهم وحسرتِهم فربما يُشعِر بعدم شعورِهم بحقيقة الحال وعدمِ انقطاع حبالِ رجائهم عنها بعدُ. وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك، وانصرمت عُروةُ أطماعهم عنها بالكلية، على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ، وإنما الذي يحصُل يوم الحشر الانكشافُ الجليُّ واليقين القويُّ، المترتبُ على المحاضَرة والمحاوَرة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8